عن المناطقية .. وشيءٌ من
الذكريات
فريدة أحمد
30 اغسطس 2017م
الاستماع لقصص الكبار
ومغامراتهم في الأرياف, تمنحك إحساس ارتباطك بالأرض وحنين تود لو يرميك في أحضان
ترابها. حسناً لم أكبر في ريف أو قرية, أنا بنت مدينة كانت تحلم وهي طفلة أن تعيش
حكايات سمعتها عن أجدادها وأبيها وأمها آلاف المرات في قراهم دون ملل, وتتساءل
ماذا تخبئ الصور المعلقة على جدران منازل المنافي من خلفها, طفلة تكبر وهي ترى هذه
الصور وتحفظها عن ظهر قلب بكل تفاصيلها, وتتساءل كثيراً, هل مازالت تلك الحقول
بهيئتها؟ أو هل توقفت مياه السيول عن تدفقها؟ بيت جدي المبني من طين في صعيد شبوة
هل مازال صامداً ومن خلفه تلك النخلتين, وهل بهما تمر؟ تساؤلات تفوح براءة وشوق
لرؤية كل ذلك على الطبيعة.
ذكريات عاشوها وشاركونا
لحظاتها معهم بحلوها ومرها, بعد أن خرجوا مكرهين من أرضهم على قصف المدافع وأزيز
الرصاص, إبان الحكم الاشتراكي الذي قتل وعذب واعتقل الكثيرين منهم بعد التحرير من
الاستعمار البريطاني, هم وعدد من الكوادر المدنية والسياسية والعسكرية والأمنية في
الجنوب, بحجة أنهم برجوازيين وعملاء للإنجليز وإقطاعيين, رغم أنهم كافحوا وقاتلوا
الاحتلال بشراسة في محيطهم وأكثر, كنت دائماً ما أسأل جدتي من قتل جدي؟ تقول بحرقة
وألم: القومية .. كبرت وأنا أسمع القومية كبعبع مخيف كالذي يرعب أطفال اليوم من
بعبع داعش بحكايات ما قبل النوم, الجبهة القومية التي قتلت جدي لأبي في حقل أرضه,
وسجنت جدي لأمي تسع سنوات ظلماً, وأعدمت خالي العقيد غدراً .. واللائحة تطول.
ثم يحدثونك اليوم عن مساوئ
الماضي التي لا تقل سوءاً عن مساوئ الحاضر المتخم بالصراعات, كانوا يشكون من
الطبقية وانتهت, فجاءوا بما يوازيها وربما أسوأ بـ (المناطقية) .. ولا أسوأ من
إدارة دولة بكل سلطاتها مناطقياً وما يقابلها من حشد مناطقي لغيره, فضلاً عن
الحمية القبلية التي تكتظ بها وسائل التواصل الاجتماعي كلٌ لمنطقته, لا وطنه الذي
يجب أن يحميه من كل عوامل التفرقة والفتنة. حاضرٌ متعب كنا نعتقد أن الماضي الذي
عاشه أجدادنا بكل مساوئه لن يتكرر وأن أجيال اليوم سيفوتون كافة الفرص التي تدعو
للكراهية والاحتراب فيما بينهم, لكنهم رضخوا لها بل وسمحوا للآخرين أن يخوضوها
عنهم بالنيابة.
لا تفاجئني المراشقات
الإعلامية اليومية على الشاشات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بين مرتاديه,
فالمناطقية تجذّرت في الجنوب أكثر منها في الشمال بسبب تراكمات قديمة زرعها نظام
ما قبل الوحدة وعززها أكثر نظام علي عبدالله صالح, استكمالاً لمشروع بريطانيا
آنذاك (فرّق تسد), مما صنع منهم أجيال متحيزة تهتم بكل ما يتعلق في إطار مناطقها فقط,
حتى إذا ما جاء من يقتحم عزلتهم ويكدر صفو خلافاتهم حاربوه عملاً بالقول: أنا وابن
عمي على الغريب, وكأنه قدّر لنا أن نرث السيئات التي جردتنا من كل قيم العلاقات
الإنسانية والاجتماعية الداعية للتعايش والقبول بالآخر.
يكفيني ويريحني لبعض الوقت أن
الشيء الوحيد الذي ورثته عن جدتي لأبي نظارة زجاجية بإطار بني عريض, لم تكن ترى
بها إلا ما يذكّرها بماضٍ فسيح عاشته بحب وألم أحياناً, لمسته في كلماتها عنه وهي
تسرد تفاصيله عدة مرات. الحمدلله, أقولها في نفسي دوماً أنهم لم يشهدوا هذه الأيام
الصعبة والمرهِقة إضافةً لما عاشوه, رحلوا عن الدنيا وهم يحملون ما يكفيهم من
الوجع. نعم قد أنزعج أحياناً من أنني حرمت من العيش في بلادي ونشأت في أرض بعيدة,
كآلاف الأطفال الذين حرموا من البقاء في أرضهم بسبب الحروب التي مازلنا في سلسلتها
المستمرة إلى اليوم, إلا أنني أشكر الله كثيراً أن نشأت في مدن متنوعة ومزدحمة, لا
تسألني من أين أتيت, وما هي منطقتي؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق