حـارس الطريـق
فريدة أحمد
24 فبراير 20180م
كانت الرحلة براً شاقة وطويلة من صنعاء إلى سيئون عبر الباص, المنافذ
الجوية والبرية والبحرية من وإلى اليمن منتصف العام 2015 كان قد أغلق بعضها بسبب
الحرب, وحال الناس بدأ يتجه للأسوأ بسبب انعدام الاحتياجات الأساسية من بعض
الأغذية والأدوية والكهرباء والماء والغاز وغيرها. كنا قد قررنا مغادرة البلاد
كغيرنا من الناس الذين تضررت منازلهم, هو ذاته الشعور الدائم بالتهديد وعدم الأمان
الذي كان يرافق الكثيرين منا, ليطرح أمامنا خيار المضي في خوض تجربة طريق آخر, والذي
ربما إن حالفنا الحظ يكون أكثر أماناً.
كانت وجوه المسافرين وهم يحملون أمتعتهم البسيطة واجمة ومهمومة وكأن
كلٌ منهم يحمل جبلاً على رأسه, تقرأ في تقاسيمهم بأنهم تائهون يتساءلون في ذواتهم
إلى أين سيذهبون وأسرهم؟ وإلى كم من الوقت؟ وهل المكان الذي سيتجهون إليه
سيحتضنهم؟ كنا قد أخذنا مقاعدنا في الباص بانتظار أن يتحرك, وقبل أن ينطلق وفي
اللحظات قبل الأخيرة بعد أن تم ترتيب المسافرين على مقاعدهم, دخل إلى الباص أكثر
من خمسة عشر مسلحاً حوثياً بالاتفاق مع سائق الباص ومساعده المحاسب أو كما نسميه
في عدن "الكرّاني" الذي أخذهم إلى المقاعد الخلفية بكل هدوء, لم يكونوا
يحملون في أيديهم سوى الأسلحة وأكياس القات فقط, كانوا في طريقهم لإحدى جبهات
القتال, مما أشعر الركاب بالوجل من وجودهم معنا طوال الرحلة, كنت أتخيل بعض القصص
المرعبة ومرت عليّ معظم مشاهد أفلام الأكشن التي رأيتها في حياتي عن سيطرة مسلحين
وعصابات على طائرات أو قطارات وحافلات, تبادر إلى ذهني أيضاً أن قصف الطيران قد
يطالنا عبر إحداثية سببها أن برفقتنا مسلحين حوثيين في الباص. الكثير من التخيلات
التي شغلتني أثناء الرحلة, لم يكن يوقفها بين الحين والآخر سوى وقفات نقاط التفتيش
على الطريق, عندما يدخل أحد المسلحين الحوثيين ليتفرس وجوه الركاب وهو يقرأ قائمة
أسمائهم بصمت وكأنه يبحث عن مطلوبين أو هاربين, و قبل نزوله يومئ لمحاسب الباص
بالرضا عن وجود رفاقه المسلحين في الخلف. هكذا كانت معظم نقاط سيطرة تحالف الحوثي
وصالح حينها على كل مدينة وقرية مررنا بها أثناء الرحلة.
خرج الباص من مناطق نفوذ سيطرتهم, مضينا في طريقنا باتجاه مأرب ونحن
نتنفس الصعداء قليلاً رغم أن قلق وجود المسلحين في الخلف كان يصيب البعض منا بالهلع,
تحركات محاسب الباص المريبة والمتكررة نحو الخلف تنذر بأن هناك شيءٌ ما يحدث أو
على وشك الحدوث, إلى أن توقف الباص في أول نقطة تفتيش باتجاه مأرب .. نزل المحاسب
وفي يده حُزم من المال وأخذ يتبادل الحديث مع صاحب النقطة لما يقارب العشر دقائق,
إلى أن وصلا يبدو إلى اتفاق بنزول المسلحين نحو جبهة مأرب للقتال مقابل المال
الممنوح له أي الحارس من أجل تمريرهم, كنت والركاب في حالة ذهول صادم, هكذا ببساطة
ينتهي المشهد بخيانة على الطريق. حادثة حقيقية حصلت أمامي وكنت شاهدة عليها وسردتها
للتاريخ, عملية ارتزاق وبيع وخيانة من قبل حارس كُلف بحماية طريق والحفاظ عليه ولو
اضطر أن يدفع بحياته ثمناً لذلك, بيد أنه لم يحافظ على أمانة هذا الطريق, باعه من
أجل المال وباع معه ضميره الذي كان أحد أسباب معاناة الناس وأوجاعهم إلى يومنا هذا.
مثل هؤلاء لا يُغتفر لهم لأنهم جزء حقيقي من إطالة أمد الحرب والحيلولة دون إنجاز
أي تقدم يُذكر. والأمر وحده لا يقتصر على حراس طرقات السفر, بل حتى نقاط المدن في
الوقت الذي نشهد فيه عمليات إرهابية هدفها زعزعة الأمن والاستقرار.
الحادثة ذكرتني بقصة بناء الصينيين القدماء لسور الصين العظيم عندما
اعتقدوا بأن لا أحد يمكن له تسلقه لشدة علوه, ولكن خلال المائة سنة الأولى بعد
بناءه تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات, لم يكن الأعداء فيها بحاجة لاختراق السور أو
تسلقه بوجود "حارس" كانوا يدفعون له الرشوة لإدخالهم عبر الباب بسهولة.
فما هو هذا السور أو المبنى أو الطريق إن لم يكن حارسه أميناً ومعداً إعداداً
صحيحاً بقيم ومبادئ تحافظ على شرف العمل الذي يؤديه؟
*صحيفة 14 أكتوبر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق